فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وكان جواب الحواريين دإلا على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله، وليس في قولهم: {نحن أنصار الله} ما يفيد حصرًا لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفًا، فلم يحصل تعريف الجزأين، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب.
وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام، ومريم المجدلية، وأم يوحنا، وحماة سمعان، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس، وسوسة، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره. اهـ.

.قال الألوسي:

{ءامَنَّا بالله} مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها {واشهد} عطف على {مِنَ} ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل: إن {مِنَ} لإنشاء الإيمان أيضا فلا اختلاف {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولًا أوليًا نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانًا كما قال الكرخي بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء في المائدة (111) {بِأَنَّنَا} لأن ما فيها كما قيل أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلًا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى. اهـ.

.قال الماوردي:

واختلفوا في سبب استنصار المسيح بالحواريين على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه استنصر بهم طلبًا للحماية من الكفار الذين أرادوا قتله حين أظهر دعوته، وهذا قول الحسن، ومجاهد.
والثاني: أنه استنصر بهم ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق.
والثالث: لتمييز المؤمن الموافق من الكافر المخالف. اهـ.

.قال الشنقيطي:

لم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى ولكنه بين في سورة الصف، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نصرة الله ودينه، وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} [الصف: 14] الآية. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آَمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} قال: كفروا وأرادوا قتله. فذلك حين استنصر قومه. فذلك حين يقول: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} [الصف: 14].
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {من أنصاري إلى الله} قال: من يتبعني إلى الله.
وأخرج ابن جرير عن السدي {من أنصاري إلى الله} يقول: مع الله.
وأما قوله تعالى: {قال الحواريون} الآية.
أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم. كانوا صيادين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي أرطاة قال: {الحواريون} الغسالون الذين يحورون الثياب: يغسلونها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: {الحواريون} الغسالون وهو بالنبطية هواري، وبالعربية المحور.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: {الحواريون} قصارون مر بهم عيسى فآمنوا به واتبعوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: {الحواريون} هم الذين تصلح لهم الخلافة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: {الحواريون} أصفياء الأنبياء.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الحواري الوزير.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة قال: الحواري الناصر.
وأخرج البخاري والترمذي وابن المنذر عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل نبي حواريًا وإن حواريِّ الزبير.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أسيد بن يزيد قال: {واشهد بأنا مسلمون} في مصحف عثمان ثلاثة أحرف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الفخر:

المراد من قوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال، فالمراد منه ما ذكرناه.
أما قوله: {آمنا بالله} فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله، لأجل أنا آمنا بالله، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه.
ثم قالوا: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد لله تعالى أيضا، ثم فيه قولان:
الأول: المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه.
الثاني: أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}، وفي سورة المائدة: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} فحذفت النون من أنا في آية آل عمران تخفيفا وثبتت في آية المائدة فقيل: أننا مع أن التخفيف بالحذف جائز فيهما والإثبات جائز وهو الأصل فللسائل أن يسأل عن وجه تخصيص كل من الموضعين بما ورد فيه؟
والجواب عن ذلك والله أعلم أن آية المائدة لما ورد فيها التفصيل فيما يجب الإيمان به وذلك قوله: {أن آمنوا بى وبرسولى} فجاء على أتم عبارة في المطلوب وأوفاها ناسب ذلك ورود أننا على أوفى الحالين وهو الورود على الأصل، ولما لم يقع إفصاح بهذا التفصيل في آية آل عمران حين قال تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله} فلم يقع هنا وبرسوله إيجازا للعلم به وشهادة السياق ناسب هذا الإيجاز كما ناسب الإتمام في آية المائدة الإتمام فقيل هنا: {واشهد بأنا مسلمون} وجاء كل على ما يجب ولو قدر ورود العكس لما ناسب والله سبحانه أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري:

قوله جلّ ذكره: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} الآية.
حين بَلَّغهم الرسالة واختلفوا- فمنهم من صدَّقه ومنهم من كذّبه وهم الأكثرون- عَلِمَ أن النبوة لا تنفك عن البلاء وتسليط الأعداء، فقطع عنهم قلبه، وصدق إلى الله قصده، وقال لقومه: مَنْ أنْصاري إلى الله ليساعدوني على التجرد لحقِّه والخلوص في قصده؟ فقال مَنْ انبسطت عليهم آثار العناية، واستخلصوا بآثار التخصيص: نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد علينا بالصدق، وليس يشكل عليك شيءٌ مما نحن فيه. اهـ.

.من فوائد تقي الدين السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ الله:
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ}.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَلَمَّا عَلِمَ مِنْهُمْ الْكُفْرَ عِلْمًا لا شُبْهَةَ فِيهِ بِعِلْمِ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ قُلْت هَذَا وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ لأَنَّ الْعِلْمَ الْحِسِّيَّ أَجْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أنه أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَ عِلْمُهُ وَشُعُورُهُ بِكُفْرِهِمْ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لأَنَّ الْحِسَّ طَرِيقُ الْعِلْمِ وَمَبْدَؤُهُ، فَهُمَا وَجْهَانِ مِنْ الْمَجَازِ فِي التَّعْبِيرِ بِالإِحْسَاسِ عَنْ الْعِلْمِ سَائِغَانِ، وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعُرْفِ كَثِيرًا وَهُوَ أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالأَكْثَرُ فِي {أَحَسَّ} اسْتِعْمَالُهُ هَكَذَا رُبَاعِيًّا وَلَمْ يَبْنُوا مِنْهُ اسْمَ مَفْعُولٍ.
وَقَوْلُ النَّاسِ مَحْسُوسَاتٌ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أنه اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْهُ جَاءَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ الثُّلاثِيِّ أَلا تَرَاك تَقُولُ الْحَاسَّةُ فَالْمَحْسُوسَاتُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْهَا وَمَعْنَاهُ الأَشْيَاءُ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَإِدْرَاكُ الْحَوَاسِّ طَرِيقٌ فِي الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إلَى الْقَلْبِ لا نَفْسِ الْعِلْمِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَقَوْلُهُمْ أَحَسَّ مَعْنَاهُ عَلِمَ بِقَلْبِهِ عِلْمًا مُسْنَدًا إلَى الْحِسِّ فَهُوَ مَعْنَى غَيْرُ الأَوَّلِ وَلَمْ يَبْنُوا مِنْهُ اسْمَ مَفْعُولٍ لاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لا يَعْرِفُهُ وَهُوَ مِمَّا أَبْرَزَتْهُ الْقَرِيحَةُ بِالْفِكْرِ وَتَأَمُّلِ الْكَلامِ.
قوله: {مَنْ أَنْصَارِي إلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله} قِيلَ السُّؤَالُ بِمَنْ عَنْ التَّصَوُّرِ وَالْجَوَابُ بِالتَّصْدِيقِ قُلْت مَنْ وَإِنْ كَانَ سُؤَالا عَنْ التَّصَوُّرِ فَالسَّائِلُ بِهَا تَارَةً يَجْزِمُ بِحُصُولٍ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يَسْأَلُ عَنْ تَعَيُّنِهِ فَقَوْلُهُ مَنْ أَنْصَارِي مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ رَاجِيًا مِنْ الله تعالى إقَامَةَ نَاصِرٍ لَهُ سَائِلا عَنْ عَيْنِهِ فَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّصَوُّرِ وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّصَوُّرِ ثِقَةً بِالله وَأَدَبًا مَعَ الله وَمَعَ السَّامِعِينَ؛ فَكَانَ الأَكْمَلُ فِي حَقِّهِ السُّؤَالَ عَنْ التَّصَوُّرِ وَجَعْلَ السُّؤَالِ عَنْ التَّصْدِيقِ مَطْلُوبًا فِيهِ؛ وَالْحَوَارِيُّونَ تَفَطَّنُوا لِذَلِكَ فَأَجَابُوا بِالتَّصْدِيقِ لِيُحَصِّلُوا الْمَقْصُودَيْنِ مَعًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هُنَا: مَنْ يَنْصُرُك هُمْ نَحْنُ. وَقَالُوا أَنْصَارُ الله لأَنَّ نُصْرَتَهُ نُصْرَةُ الله بِمَعْنَى نُصْرَةِ دِينِهِ. وَلِيُبَيِّنُوا أَنَّ نُصْرَتَهُمْ لِلَّهِ لا يَشُوبُهَا غَيْرُهَا مِنْ حُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا فَسَرُّوا الإِحْسَاسَ بِالْعِلْمِ لأَنَّ الْكُفْرَ يُعْلَمُ وَلا يُحَسُّ عَلَى أنه قَدْ يَكُونُ بِأَقْوَالٍ تُسْمَعُ وَأَعْمَالٍ تُبْصَرُ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ أَوْ دَلِيلا عَلَيْهِ؛ فَيَصِحُّ إطْلاقُ الإِحْسَاسِ عَلَيْهَا حَقِيقَةً، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ فِي الآيَةِ الأَوَّلُ وَفِي قوله تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الإِبْصَارُ حَقِيقَةً. وَلِهَذَا قَالَ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا انْتَهَى. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}.
لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولا حين قال: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51].
وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل: أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد، وأنا لم أجيء لأعلمّكم لأني تميزت عنكم بشيء. فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء، فالله رب لي ورب لكم، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق.
ونحن ساعة نسمع الصراط المستقيم فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية، ونعرف جميعا أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق، إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية. وساعة تسمع صراط فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها. والحق سبحانه يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وما دام هناك طريق لغاية ما فلابد أن نحدد الغاية أولا، وتحديد الغاية إنما يهدف إلى أيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية. وهكذا يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}.
والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية، إن الأركان التعبدية لازمة، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون.
ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات وباب المعاملات، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه عبادة.
إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، ومنها ما يتصل بعمارة الكون. ولذلك قلنا: أنك حينما تتقبل من الله أمرا بعبادة ما، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع، وهذا الأمر بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ، إنما أخذ الإنسان من عمل، هو البيع.
ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق. إن كلام الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر، فلم يقل الله مثلا اتركوا الصنعة اتركوا الحرث ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة النفعية العاجلة.
إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار، لكن الذي يبيع شيئا، فإنه ينال المنفعة فورًا، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة، ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة.
إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله، والحق لم يتكلم هنا مثلا عن الشراء، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك: لقد ذهبت إلى الشراء، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع نقودا، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة. لذلك يخرجنا الحق من قمة كل الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها. لكن ماذا بعد انقضاء الصلاة؟